الأردنيون يتسابقون لشراء الذهب إقبال عجيب
الذهب لم يعد مجرد زينة في الأردن، بل تحوّل إلى رمز أمان وادخار واستثمار. في السنوات الأخيرة، تصاعدت وتيرة الإقبال على شراء الذهب بشكل واضح، ولم تعد هذه الظاهرة مقتصرة على فئة معينة، بل طالت جميع شرائح المجتمع. مع ارتفاع الأسعار وتدهور القدرة الشرائية، لجأ الكثير من الأردنيين إلى الذهب كحل يحافظ على قيمة أموالهم. فهل هو هوس مؤقت أم اتجاه طويل الأمد؟
مقدمة عن الإقبال الأردني غير المسبوق على الذهب
ملاحظات عامة على ظاهرة شراء الذهب في الأردن
في الأسواق والمراكز التجارية ومحلات المجوهرات المنتشرة في أنحاء المملكة، تجد حركة بيع وشراء نشطة لم يُشهد مثلها منذ سنوات. الإقبال اللافت للنظر على الذهب بات حديث الجميع: من الإعلام إلى منصات التواصل الاجتماعي، ومن أصحاب المتاجر إلى المواطنين أنفسهم. الأمر لم يعد مجرد زيادة موسمية مرتبطة بالأعراس أو المناسبات، بل صار أشبه بحالة اقتصادية واجتماعية جديدة.
الأردنيون لم يعودوا يشترون الذهب فقط للزينة أو تقديمه كهدايا، بل أصبح وسيلة للادخار وتخزين القيمة، خصوصاً مع استمرار التضخم وارتفاع الأسعار بشكل جنوني. هذا التوجه لم يكن بهذه القوة في السابق، بل كان الذهب يُشترى بكميات بسيطة ولأغراض محددة. اليوم، العائلات تخصص جزءاً من دخلها الشهري لشراء الذهب، وكأنه حساب توفير بديل.
مقارنة بين الإقبال الحالي والماضي
في الماضي، كان شراء الذهب يقتصر على المواسم: الزواج، الأعياد، أو كميراث تقليدي. لكن الآن، نلاحظ تحولًا جذريًا. حسب تجار الذهب في وسط البلد وشارع الجاردنز، ارتفعت نسبة الإقبال بنسبة تزيد عن 60% مقارنة بالسنوات الخمس الماضية. وحتى مع الارتفاع الحاد في الأسعار العالمية، لم يتوقف الأردنيون عن الشراء، بل ازداد الطلب على السبائك والليرات الذهبية أكثر من الحُلي.
من خلال مقارنة سريعة بين العام 2015 والعام 2024، نرى تضاعف كميات الذهب المباعة، وزيادة عدد المتاجر المتخصصة في بيع السبائك تحديداً. بل وظهرت شركات تقدم خدمات شراء الذهب أونلاين، في استجابة مباشرة لحجم الطلب المتزايد. إنها ليست مجرد طفرة، بل سلوك اقتصادي بدأ يتجذر في الثقافة الأردنية.
الذهب كملاذ آمن في ظل الأزمات الاقتصادية
التضخم وغلاء المعيشة كأسباب رئيسية
ارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود والتعليم والصحة في الأردن خلق شعورًا عامًا بانعدام الأمان المالي. لم يعد المواطن يشعر أن ديناره يحتفظ بقيمته. وبالتالي، لجأ الكثيرون إلى الذهب كوسيلة للتحوّط. إذ يُعتبر الذهب على مرّ العصور "الملاذ الآمن" وقت الأزمات.
في عام 2024 وحده، تجاوز معدل التضخم 4%، وهو رقم مرهق في بلد مثل الأردن، حيث الدخل محدود والفرص الاستثمارية ضئيلة. الذهب في هذه الحالة يقدم ما لا تستطيع البنوك أو الأسهم أن تقدمه: الحماية من تآكل القيمة. يمكن تخزينه، بيعه عند الحاجة، ولا يتأثر بقرارات الحكومة أو البنوك.
الأردني البسيط بدأ يلاحظ هذه الحقائق، فصار يشتري غرامًا أو نصف غرام كلما توفرت لديه فرصة. ومع تزايد القلق حول الأسعار المستقبلية، أصبح الذهب الطريقة المثلى للحفاظ على المدخرات. وبالفعل، أثبت الذهب قدرته على الصمود في وجه الأزمات المالية التي تعصف بالمنطقة والعالم.
فقدان الثقة بالعملة المحلية والنظام المصرفي
مع تقلبات سعر صرف الدينار الأردني أمام الدولار وارتفاع نسب القروض البنكية، بدأت الثقة تنهار تدريجياً. كثير من المواطنين باتوا يفضلون تحويل أموالهم إلى ذهب بدلاً من إيداعها في حسابات توفير ذات فائدة منخفضة أو الدخول في مشاريع محفوفة بالمخاطر.
تزايد الحديث عن "أموال تحت البلاطة" في الأردن ليس مزحة. الناس يفضلون تخزين الذهب في منازلهم على الوثوق بأي نظام مصرفي قد يحد من سحب أموالهم عند الأزمات. وهذا واضح من زيادة الإقبال على شراء خزائن خاصة لتخزين الذهب، بل وحتى بناء غرف آمنة في البيوت الحديثة.
دور العادات والتقاليد في تعزيز الإقبال على الذهب
الذهب كمهر وهدية في المناسبات
في المجتمع الأردني، الذهب لا يُقدَّر فقط بالقيمة المادية، بل هو تقليد راسخ. في كل خطبة، زواج، ولادة، نجاح أو حتى مناسبة اجتماعية بسيطة، يُعتبر تقديم الذهب علامة تقدير واحترام. لذلك، يبقى الطلب عليه دائمًا مرتفعًا، خصوصاً في المناسبات.
المهور مثلاً، أصبحت تعتمد على الذهب بشكل شبه كامل. في السابق كان يتم تقديم قيمة نقدية، أما الآن فإن "شبكة الذهب" باتت جزءاً لا يتجزأ من الاتفاق. حتى العائلات التي تمر بظروف اقتصادية صعبة، تحاول تأمين قطعة ذهبية على الأقل، حفاظًا على "الواجهة الاجتماعية".
ارتباط الذهب بالهيبة والمكانة الاجتماعية
الذهب أيضًا يحمل رمزية قوية في المجتمع الأردني. المرأة التي ترتدي الذهب تُعتبر أنيقة، ومقدّرة من زوجها أو عائلتها. والرجل الذي يقدم الذهب يُنظر إليه على أنه كريم، ومسؤول، وذو مكانة مالية جيدة. هذه الصورة الذهنية الراسخة تجعل الناس يسعون جاهدين لشراء الذهب، حتى لو اضطروا للاستدانة.
في بعض المناطق، تقاس مكانة العائلة بكمية الذهب التي قدمها العريس لعروسه. وقد يكون هذا محفزًا اجتماعيًا قويًا يدفع نحو المزيد من الشراء، لتفادي "كلام الناس". في النهاية، الذهب في الأردن ليس فقط قيمة اقتصادية، بل قيمة معنوية واجتماعية لا يمكن تجاهلها.
تأثير الأوضاع الجيوسياسية والإقليمية
الحروب والصراعات المحيطة بالأردن
الأردن محاط بدول تعاني من اضطرابات: سوريا، فلسطين، العراق، ولبنان. ومع كل تصعيد سياسي أو عسكري، يشعر الأردنيون بالقلق على مستقبلهم، ويبدأون في البحث عن وسائل لحماية أموالهم. الذهب هنا يدخل كخيار أول، خصوصًا في ظل التجارب المريرة التي عاشها اللاجئون الذين فقدوا كل شيء باستثناء الذهب الذي حملوه معهم.
هذا التاريخ المشترك ولّد خوفًا جماعيًا من فقدان الاستقرار، ما جعل الذهب وسيلة لحفظ الثروة في حالة حدوث أي طارئ. ولهذا نجد الإقبال على الذهب يتزايد مع كل أزمة إقليمية، حتى لو كانت مؤقتة أو بعيدة جغرافيًا.
تأثر الأردنيين بالأزمات في الدول المجاورة
المواطن الأردني يتابع الأخبار عن لبنان وانهيار عملته، أو عن الليرة السورية التي فقدت قيمتها، ويخاف أن يصيبه نفس المصير. هذا التأثر النفسي والعاطفي يولد قرارات استباقية بشراء الذهب، حتى قبل أن تبدأ أي أزمة محلية. إنها "عدوى الخوف" التي تنتقل من شعوب إلى شعوب، وتحفز الإقبال على اقتناء الأصول الآمنة.